يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا عُرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره".
وهذان شرطان في قبول كل عمل من الأعمال، وهما: الإخلاص، والموافقة للسنة.
يقول رحمه الله: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمورٍ به، كان خارجاً عن هذا". أي فالذي يجب على الإنسان ألا يعمل العمل إلا لله، إن هجر فلله، وإن أحب فلله، وإن أبغض فلله.
وإن مما ينبغي التنبه له: أن كل داعية قد يُبتلى ويُمتحن ويُؤذى، فإياك إياك أن تجعل ما ابتليت به أو أوذيت به هو المعيار في العداوة، أي: أن تعامل أحداً بشر لأنه آذاك أو أساء إليك، وإن كانت النفوس مفطورة على هذا، لكن اجعل المعيار هو أن تكون محبتك وعداوتك لله، فلا تظلم منهم أحداً ولا تحيف عليه وإن كان ظالماً لك، بل اجعل غضبك لله تعالى، ودعوتك إلى الله تعالى، فتجرَّد من حظ النفس ومن هواها، واجعل هواها وحظَّها تبعاً للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أقام الدين ونصره فأحبه ولو آذاك في حقك أو ظلمك في نفسك؛ لأنه نصر الحق وأظهر الله به الدين، ومن كان غير ذلك وإن أحسن إليك في نفسك؛ فإنه لا يجوز لك أن تحبه أو أن تداهنه في دين الله.
  1. هجر المؤمن أخاه لحقه

    هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة}، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!
    الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا))[الشورى:40] لكن... ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه))[الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
    يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
    أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.
    ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ))[الحجرات:9-10].
    فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
  2. المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر

    ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
    أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.
    فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
    يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".